logo
logo logo

موت الأسرة الشرقية

موت الأسرة الشرقية
لا يمكن إخراج الإنسان من دائرة الأسرة التقليدية، فقد أكدت الأبحاث أن الأطفال الذين لديهم تواصل أكثر مع أجدادهم، يحتفظون بمعدل ذكاء عالٍ وبمهارت اجتماعية واضحة، تميزهم عمن لم يدخلوا في مثل هذه التجربة، وأثبتت بعض التجارب أن الناس يولدون ولديهم منظومة أخلاقية يلتزمون بها، إلا أنها لا تصرف سوى للأشخاص المشابهين لهم، وتغيب عن المختلفين عنهم..
قبل ثلاثة أيام وتحديدا في الاول من يناير الجاري، احتفل العالم باليوم الدولي للأسرة، الذي اقرته الأمم المتجدة في عام 1997، وهذ اليوم ينظر للأسرة باعتبارها ركيزة للسلام والمشاركة المجتمعية ووقف العنف، وقدمت المملكة ومعها مجموعة دول في اكتوبر 2023، مشروع قرار عن الأسرة، وكانت الموافقة عليه بالاجماع في مجلس حقوق الانسان بالأمم المتحدة، وفيه تعزيز لدورها الايجابي في حماية حقوق الانسان، واعادة احياء لملف الأسرة بعد غيابه عن جدول اعمال المجلس لأعوام، ولم يتوقف الدور السعودي عند ذلك، فقد اهتم النظام الأساسي للحكم السعودي بالأسرة وحقوقها، في مادتيه التاسعة والعاشرة، وقامت الدولة بتأسيس مجلس لشؤون الأسرة، يضم في عضويته 13 وزارة، وبدأ اعماله في 2016، وهو يعمل على تطوير مستوى الخدمات الاسرية، بما يسهم في استقرار الاسرة اجتماعياً واقتصادياً، ويحقق تطلعات رؤية المملكة للمجتمع الحيوي.
رغم ما سبق تواجه الأسرة في المملكة مشاكل كثيرة، لأنها تمثل حاضنة استراتيجية للقيم وانتاجها، ولان النموذج العربي التقليدي للاسرة يتعرض لازمة وجود، وربما تعرض لمشكلات مشابهة لما يحدث في أوروبا واميركا، ما لم يفكر في حلول استباقية، وبالاخص في موضوعات الشيخوخة الديموغرافية وارتفاع معدلات الاجهاض وتسليع مؤسسة الزواج، واحلال بدائل شاذة محلها باسم حقوق الاقليات، وكلها تبقى حاضرة وممكنة في المستقبل القريب، في ظل وجود من يرون في الزواج سجنا وفي الامومة عبودية، وبفعل الانتقال من مرحلة صلابة القيم الاخلاقية والمنطلقات الايمانية، الى مرحلة سائلة لا تحكمها الا مرجعة التسليع، والعلاقة العاطفية القائمة على التعاقد المادي النفعي، أو كما قال زيغمونت باومان في كتابه (الحداثة السائلة).
لا يمكن اخراج الانسان من دائرة الأسرة التقليدية، فقد اكدت الابحاث ان الاطفال الذين لديهم تواصل اكثر مع اجدادهم، يحتفظون بمعدل ذكاء عالٍ وبمهارت اجتماعية واضحة، تميزهم عمن لم يدخلوا في مثل هذه التجربة، واثبتت بعض التجارب ان الناس يولدون ولديهم منظومة اخلاقية يلتزمون بها، الا انها لا تصرف سوى للاشخاص المشابهين لهم، وتغيب عن المختلفين عنهم، ولدرجة انهم يرضون بممارسة الظلم ضد من لا يشبهونهم، والشواهد حاضرة على ارض الواقع، واللافت ان الباحثين في واشنطن توصلوا عام 2012، الى وجود خلايا ذكورية في ادمغة 60% من النساء المبحوثات بعد وفاتهن، وبفحص الحمض النووي للخلايا، اتضح انه يخص ابناء النساء المتوفيات، وانهن احتفظن بها داخل ادمغتهن طوال حياتهم، ما يفسر علاقة الأم المختلفة بأبنائها الذكور.
الأسرة لا تمارس ادوارها المطلوبة دائما، وربما اهملت اطفالها، ما قد يشعرهم بفراغ عاطفي، وهذا النوع من الاطفال يكون مندفعاً في شبابه، ويقع اختياره على الشريك الخطأ، أو يقبل بوظيفة يعطيها اكثر مما تعطيه، أو يتسامح مع من يستغله، ويفضلون الانعزال على الصحبة، وكلهم يمثلون مخرجات اربعة انواع من الأسر، النوع الأول يعرف بالاسر الانفعالية، التي يتحرك سلوكها بفعل مزاجها وتقلباتها، والثاني الأسر المندفعة، وهؤلاء يريدون كل الاشياء حولهم مثالية، ويتحكمون في حياة اطفالهم بدون تعاطف معهم، والثالث الأسر السلبية التي لا تتدخل في حياة ابنائها، وتترك هذه المهمة للآيباد والسوشال ميديا واصدقاء الدراسة والمربيات، والرابع الأسر الرافضة التي لا يخرج تفاعلها عن اصدار الأوامر بجفاف واضح، والاربعة يمثلون أسراً غير ناضحة عاطفياً، والوالدين فيها مازالوا اطفالا في دواخلهم، فالاسر الناضجة عاطفيا تهتم بالمجهود قبل النتيجة، ولديها قدرة على الثبات الانفعالي، وتهتم بصدق لا بافتعال، وبالامكان الاعتماد عليها من الناحية العاطفية.
بخلاف ان التربية على الطريقة العربية أو السعودية، اذا تمت بمعرفة الأهل لا المربيات، فإنها ترتبط بالدين والعادات والتقاليد اجمالاً، وفيها تحديد للسمات والمؤهلات المطلوبة في الوالدين، بينما نموذج التربية الغربية، يأخذ بنظريات كارل يونغ وسيغموند فرويد، وبالاحتياجات النفسية وحقوق الانسان، وفيه تحجيم لدور الوالدين التربوي، وتقنين لادواتهم في تأهيل اطفالهم، ولا ينظر فيه لمسألة القيم اطلاقاً، لان الطفل الغربي يعود في ملكيته للدولة لا لوالديه، فهو مجرد رقم اضافي يلحق بدافعي الضرائب، ومستهكلي المنتجات المختلفة.
باتريك بوكانن في مؤلفه (موت الغرب) قال: ان تنازل الغرب عن اخلاقه، دمر بناءه الديموغرافي والبيولوجي، وسينتهي به الى الانقراض، لانه تمرد على شكل الاسرة الكلاسيكي، وفضل بدائل الاشباع الاخرى عليها، وكانت المحصلة زيادة معدلات الانحراف والجريمة، ومعهما معدلات الالحاد والانتحار.. والأنسب في رأيي، هو الرجوع الى الجذر الأسري القديم، والاعتماد على اسلوب التربية بالاقناع لا بالإجبار، لان المنع الجبري لا يحقق المناعة الذاتية، وانما الامتناع المؤقت، والابتعاد عن الابتزاز العاطفي باستغلال صلة الرحم وتطهير الذات المتجنية، أو بالتوظيف العشوائي والمصلحي للنصوص الدينية، مع الاخذ بسياسة شعرة معاوية في التعامل مع اطفال العالم الجديد في مجتمعاتنا، وبما يضمن حياة مديدة للأسر الشرقية بعد موت الغرب ان حدث.

نقلا عن الرياض
التعليقات (0)

التعليقات مغلقة